لماذا يثق العالم في الرياض؟

الأسبوع المنصرم، احتضنت الرياض لقاءً تاريخيًا جمع بين وزير الخارجية الأمريكي ونظيره الروسي، لقاءٌ لم يمر كأي اجتماع دبلوماسي عابر، بل كان كالنجم الذي تتجه إليه الأبصار في ليل حالك، وقد أضفى على الأجواء الدولية نسمة أمل بأن الحرب المدمّرة بين روسيا وأوكرانيا قد تجد طريقها إلى خاتمة تُنعش الأرواح وتُعيد للأرض شيئًا من سكينتها. ومن بين كل هذه التحركات السياسية والدبلوماسية، تسلل إلى أذهان المتابعين سؤال جوهريّ يتردّد صداه في الأروقة والمجالس: “لماذا يثق العالم بالرياض؟”

هذا السؤال، وإن بدا بسيطًا في ظاهره، إلا أن جوابه يغوص عميقًا في أعماق السياسة، ويعانق أبعاد التاريخ، ويتكئ على إرثٍ من المواقف والمبادرات التي نسجت المملكة العربية السعودية من خلالها لنفسها مكانة لا تُشترى بمال، ولا تُنال بدعاية، بل تُكتسب بثبات الموقف، وصدق الكلمة، وسموّ الهدف.

كثيرون يردّون هذه الثقة إلى الثقل السياسي الذي تحمله المملكة على الساحة الدولية، وهو أمر لا جدال فيه، لكن الحقيقة أن الأمر يتجاوز هذا التفسير السطحي. حين تلجأ قوى عظمى، بعضها يمتلك مقعدًا دائمًا في مجلس الأمن وسلاح الفيتو بيده، إلى الرياض طلبًا للوساطة وسعيًا للحل، ندرك أن هناك شيئًا أعمق من النفوذ السياسي وحده. هناك تاريخ من الصدق، ورصيد من النزاهة، وسيرة حافلة بالمواقف التي لم تخذل من طلب العون.

ويذهب البعض إلى القول إن السر يكمن في متانة الاقتصاد السعودي وقوة مركزه المالي، وهذا جانب لا يُنكر. لكن لو كان المال وحده صانع الثقة، لكانت ثمة دول أخرى ذات اقتصادات جبارة قد حازت على المكانة ذاتها، غير أن المشهد يُثبت أن الثقة تُبنى بعرق السنين، وبمواقف لا تتلون مع المصالح، ولا تتغير مع تقلبات السياسة.

لقد أظهرت الرياض عبر عقود طويلة أنها أكثر من مجرد عاصمة لدولة غنية بالنفط، إنها القلب الذي ينبض بالحكمة في جسد العالم المضطرب. مواقفها ليست صدى لمصالح آنية، بل ترجمة لرؤية تؤمن بأن السلام ليس رفاهية بل ضرورة، وأن العدالة ليست خيارًا بل التزام. ولهذا، حين تحتدم الأزمات، تجد الخصوم أنفسهم، طوعًا أو كرهًا، أمام بوابة الرياض، حيث تُستقبل الوفود لا بالكلمات الجوفاء، بل بالحلول الجادة والرؤى المتزنة.

ويكفي أن نفتح دفاتر التاريخ القريب لنرى أمثلة تُعزز هذه الحقيقة. ففي عام ١٩٨٩م، حين عصفت بلبنان حربٌ أهلية مزّقت أوصاله، كان اتفاق الطائف الذي رعته السعودية بمثابة البلسم على جرح نازف، أعاد للبنان شيئًا من توازنه المفقود. وفي عام ١٩٩٠م، يوم اجتاح الظلم أرض الكويت، لم تتردد المملكة في أن تكون أول من يرفع راية الحق، فحشدت العالم خلفها، لا بحثًا عن مجدٍ زائل، بل نصرة للعدل ودعمًا للجار المكلوم.

ولم تتوقف جهود الرياض عند حدود المشرق العربي، ففي ثمانينيات القرن الماضي، حين بلغ التوتر بين المغرب والجزائر حدّ القطيعة، مدت المملكة يد الصلح، وأعادت للعلاقات بين الجارتين دفئها الذي كاد أن يخبو. أما حين تصاعدت التوترات على الحدود بين سوريا والأردن عام ١٩٨٠م، وكاد فتيل الحرب أن يُشعل المنطقة، لعب الأمير سعود الفيصل، بذكائه الدبلوماسي وبُعد نظره، دور الحكيم الذي يُطفئ النار قبل أن تلتهم الأخضر واليابس، مُعيدًا الأمن إلى حدودهما، والطمأنينة إلى شعبيهما.

لكن سرّ الرياض لا يكمن فقط في قدرتها على حل النزاعات السياسية، بل في كونها صوت الحكمة الذي يُنادِي بالسلام حين تصمّ الحروب آذان العالم. فقد كانت دائمًا حاضنة لمؤتمرات السلام، ومسرحًا لحوارات الأديان، وموطنًا لمبادرات تُؤمن بأن الإنسانية فوق كل الاختلافات، وأن التعارف والتعايش هما السبيل إلى عالم أكثر رحمة.

الثقة التي أودعها العالم في الرياض ليست نتاج ثروة تُستنزف، ولا صدفة تُكرر، بل حصيلة مسيرة عنوانها الصدق، ووقودها الإخلاص، وغايتها خير البشرية جمعاء. المملكة، في كل محفل، وفي كل أزمة، أثبتت أنها لا تتحرك بدافع المصالح الضيقة، بل بوازع من مسؤولية أخلاقية وإنسانية ترى في كل إنسان أخًا أو جارًا يستحق يد المساعدة لا سياط العداء.

إذا السؤال: لماذا يثق العالم بالرياض؟ فالجواب في التاريخ الذي لا يكذب، في المواقف التي لا تُنسى، وفي المبادرات التي تتحدث أفعالها قبل أقوالها. الرياض ليست مجرد مدينة، بل قلب ينبض بالحكمة، وصوت يعلو بالحق، ويد تمتد للسلام في عالم أنهكته الحروب.

المقال كتبه: د. نايف العتيبي, الملحق الإعلامي السعودي في باكستان، ونشر في The Nation

شاهد أيضاً

باكستان والهند: سبعة وسبعون عاما من التقلبات

على مدار السبعة والسبعين سنة الماضية، شهد تاريخ العلاقات الثنائية بين باكستان والهند العديد من …